" لا يزال الإسلام بالرغم من جميع العقبات التي خلّفها تأخر المسلمين أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر ، لذلك تجمّعت رغباتي حول مسألة بعثه من جديد"
.. إذا نظرت إلى الصحراء وهي تموج برمالها، وتعصف برياحها، وإذا هي متكبّرة جبّارة، ترمي من يحاول وطء أرضها برمال عاتية، وتزمجر به حتى يرتمي أرضًا ويغطي نفسه مستلسمًا، ثم هي تلين له، فإذا ركب الشخص هجينه وارتحل، مشت من تحته كأنما هي تساعده ليصل لمراده .. وتكشف له عن نفسه، فكأنها المرآة تجليها له، وتكشف ما كان يحجبه عنها من لوثة المدنية، ومشاغل الحياة .. وهي المدرسة التي ما تنتهي عبرها ودروس حكمها ومواعظها، تعلمه الصبر حتى يكون طبعًا له، ثم ينعم عليه الله بها فتعطيه مما يُحرم من غيرها!
إذا رزقها الله غيثًا انقلبت إلى روضة فياضة كأن لم تمر بجفاف قط! ثم تحرقها الشمس ويغطيها الرمال حتى ما يظن بأن مسّها نعيم.
وهي على تغير أحوالها وتبدلها، فما من شيء يكون على طبيعته إلا بها! عجيبة غريبة، كالبحر في تموجها وعظمتها وإن " الحياة بجلالها وعظمتها تحسها دائمًا في الصحراء، وإذ كان من الصعب جدًا الاحتفاظ بها هناك، فهي بمثابة الهبة أبدًا، عزيزة دائمًا كالكنز الثمين " !
ولحسنها فُتن بها محمد أسد، حتى ملكت عليه قلبه، وسلبت لبه، فكان كثير الارتحال بها على هجينه مع دليله وصديقه البدوي الشمرّي زيد.. على أن حبها ما كان إلا جزء وقطعة من حبه الأكبر، وهو تابع له.
فمن محمد هذا؟ وما كان هو أول من أحبّ الصحراء وافتن بها، ولا رحلاته بها الأولى من الرحلات تلك؛ ولكني أخبرك بخبره، حتى أرفع العجب، لِتُعجب !
كان محمد يهوديًا من النمسا، درس بها الفلسفة والفن، ودفعاه والداه لقراءة التلمود وتعلم العلوم الدينية العبرانية على صغر سنه وحفظها حتى أجاد العبرانية وتكلم بها !
وما يجيء في بال المرء حين يعرف هذا، إلا بأن ليوبولد - اسمه السابق - كان متعصبًا لدينه، حريصًا عليه؛ لكنه كان على العكسِ من هذا، فقد ازداد بعدًا عنه، رغم معرفته المتعمقة وتفريقه بين التملودين البابلي والقدسي.
كان ذو همّة عالية وطموح كبير، وعقل دائم التفكير . أحبّ الصحافة فعمل بها، ثم دعاه قريب له للقدس فلبّى دعوته، لباها ظانًا بأنها رحلة قصيرة، وأنها مغامرة ممتعة - وهو من المحبين لها - ميّالا للتغيير وتجربة الجديد، ولم يعلم بأنه هناك سيُبعث من جديد، وأن حاله سيتغير عليه فكأنه لم يكن من قبل!
ثم أصبح مراسلًا صحفيًا في المشرق العربي والإسلامي.
وإذ قلت لك بأنه مضطرب الوجدان، دائم التفكير، فإنه لا بدّ أن يهديه للحقيقة؛ لأن العقل السليم سيصل إلى حقيقة الحياة وجوهرها والمراد منه.
مضى محمد أسد إلى القدس مع قريبه، وكان يسكن معه بيته، وجارهما فلسطيني مسلم،؛ شيخٌ كبير، سلبت منه الحياة قوته الجسدية، وأمدّه الله بقوة إيمانية، فكان مؤمنًا مصليًا، يجتمع معه المسلمين فيصلي بهم خارج المنزل جماعًة، وليوبولد يراهم من نافذته ..
وكان يضيق بحركاتهم في الصلاة، وأقلقه السؤال، فأخبر به " الحاجي " :
- " ألا يكون من الأفضل للمرء أن يخلو بنفسه وأن يصلي إلى الله في قلبه ؟ لم حركات الجسم هذه كلها ؟ "
وما تضايق الشيخ من سؤاله ولا استاء، بل فتر عن ابتسامة وأجاب:
- " بأية طريقة أخرى إذن، يجب أن نعبد الله ؟ ألم يخلق الجسد والروح معًا ؟ وإذا كان هذا أفلا يجب أن يصلي الإنسان بجسده كما يصلي بروحه ؟
.. إننا نولي وجوهنا نحو الكعبة ، مدركين أن المسلمين كلهم حيثما كانوا، مولون وجوههم نحوها في صلاتهم، وأننا كجسد واحد، وأن الله هو محور تفكيرنا جميعًا. "
وكان كلامه أول باب يُفتح، كان الإشارة للطريق المستقيم من بين سبل الضلال، وكان النور الذي لمع في ظلمة الحيرة، ثم تغشاها من بعد، فكانت نور الهداية "جاءني الإسلام متسللاً كالنور إلى قلبي المظلم ، ولكن ليبقى فيه إلى الأبد "
ورغم أنه لم يقرأ عن الإسلام من قبل وكان متأثرًا بنبذ الغرب له؛ فقد تأثّر حينما كان يرى مسلمًا يفرش سجادته ويرمي عن كاهله أعباء الحياة، ويقطع علائقه بها، ويتوجه للإله الأوحد يدعوه بتذلل ويستغيث به برجاء.. وكان رغم يهوديته لم يرى بأحقية الصهاينة لاستيطان القدس واحتلال فلسطين.
" أدركت أن العرب هم الذين كانوا يخدعون، وأنهم كانوا على حق بدفاعهم عن أنفسهم ضد هذه الخديعة ".
كان ذلك أول الطريق وبداية المسير، ثم انتقل للبلدان الإسلامية والعربية، وكان يكلم المسلمين بحرقة لتركهم تعاليم الإسلام القيّمة، وابتعادهم عنه وعن تطبيقه .. ثم فُوجئ حينما أخبره صديقه الأفغاني:
" أنت مسلم، ولكن دون أن تدرك نفسك ذلك " !
كانت تلك صدمة هزّته من الأعماق، فاجئته بنفسه ووضعته أمامها، كان شيئا يُحس به ويكذبه، يهرب منه ويلحقه؛ كانت روحًا يهرب منها جسده، وفكرة تهرّب منها عقله، فجائته كلمة صديقه لتقبض على الهارب، وتعيد نفسه إلى مكانها الذي كان يجب أن تكون فيها..
ثم أسلم محمد أسد، وهام بالجزيرة العربية حبًّا؛ وكان أجنبيًا أوربيًا، اعتاد على جنّات الله في أرضه وعلى هوائها العليل وبساطها الأخضر ومناظرها المذهلة، ورغم ذلك فقد نسف كل ذلك وراء ظهره، وعاد إلى موطنه الأصلي الذي كان يسكن فيه قلبه، وبُعثت فيها روحه. يعيش في الصحراء بقسوتها وشدّتها؛ بنارها في الصيف، وزمهريرها في الشتاء. يعاني من لهيب الصيف وحرارته ما يحرقه، ويعطش حتى ما يحس بلسانه إلا حجرًا في فمه! ويجوع حتى يرمي من الإنهاك نفسه على الهجين يمضي به حيث يشاء! ويمر عليه الشتاء بزمهريره وبرده، حتى ما يغني عنه الحطب إذا اشتعل فيه النار شيئًا.
مكث فيها حتى أحسّ بها وطنه، وما كان يشعر بالبدو رغم استغرابهم لبشرته البيضاء في الصحراء المحرقة إلا أخوانه " ذلك أن جزيرة العرب قد أصبحت وطني. إن ماضي الغربي أشبه بالحلم البعيد، لا من الوهم بحيث ينسى، ولا من الحقيقة بحيث يؤلف جزءًا من حاضري "
التقى بالإمام عبدالعزيز، فتوطدت العلاقة بينهما وكان صديقه، يبثّ عبدالعزيز إليه همّه، ويُحضره درسه، وكان من خاصته .. وكان أوّل أجنبي يسمح له الملك عبدالعزيز بالمسير لنجد، بل دعاه لهذا.
ثم التقى بالمدينة شيخ عمر المختار السنوني، فكان يخطّ معه الخطط الحربية للجهاد في لليبيا، ويفكران بالحيل لمساعدة المجهادين هناك، ثم استأمنه الشيخ السنوسي وكان له منزلة ما جعله يرشحه ليذهب للجهاد هناك !
وكان تكليف عظيم وأمانة كبيرة، وحملها .. وذهب هناك لليبيا مجاهدًا، وقابل عمر المختار وقصّ ما كان منهما، وتعرّض للموت وكان قريبًا إليه حتى يكاد يقع به لولا حماية الله له فنجى هو وبعض من جماعته وقُتل آخرون ..
خرج من البلاد العربية للبلدان الإسلامية، وكان له جهود معروفة وكتب قيّمة، ترجم معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري، وكتب رحلته في الطريق إلى مكة وإسلامه، ودرّته المعروفة: الإسلام على مفترق الطرق.
ما كانت هذه سيرة شخص، كانت قصّة عقل، ورحلة روح لموطنها الأصلي.. كان غريبًا في ديار نشأته، مستوطنًا البلدان العربية منذ ولد !
حينما توجه بقلبه وجسده من مصر راكبًا الباخرة، قاصدًا مكة للحج، شعر بأن غربته انقضت، وأنه وجد بلاده؛ فـوصف إفاضته مع الحجيج من عرفات: "ها نحن أولاء نمضي عجلين مستسلمين لغبطة لا حد لها، والريح تعصف في أذني صيحة الفرح. لن تعود بعدُ غريباً، لن تعود.. إخواني عن اليمين، وإخواني عن الشمال، ليس بينهم من أعرفه وليس فيهم من غريب ! فنحن في التيار المُصطخِب جسد واحد يسير إلى غاية واحدة وفي قلوبنا جذوة من الإيمان الذي اتقد في قلوب أصحاب رسول الله … يعلم إخواني أنهم قصّروا، ولكنهم لا يزالون على العهد، سينجزون الوعد"
"لبيك اللهم لبيك" لم أعد أسمع شيئاً سوى صوت "لبيك" في عقلي ، ودويّ الدم وهديره في أذني .. وتقدمت أطوف، وأصبحت جزءاً من سيل دائري! لقد أصبحت جزءاً من حركة في مدار ! وتلاشت الدقائق وهدأ الزمن نفسه .. وكان هذا المكان محور العالم" !
إن الإسلام فطرة ينجذب إليها المرء، دليله قلبه ، وهاديه بعد الله عقله .. ورحمة الله للإنسانية هذا الإسلام لأن
"الرجل الذي أُرسل رحمة للعالمين ، إذا أبينا عليه هُداه، فإن هذا لا يعني شيئاً أقل من أننا نأبى رحمة الله !"