الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

بسم الله الرحمن الرحيم 

اتفقت وصديقتي العزيزة أبرار، أن نقرأ في الأسبوع كتابًا ثم نكتب عنه في نهاية الأسبوع .. والحق بأنه مشروع جميل، يجبرني على القراءة التي أتهاون بها كثيرًا.

كتاب هذا الأسبوع: حاج في الجزيرة العربية لـ عبدالله فيلبي  



الكتاب في الجزء الأول منه يصف حجته في مكة حتى عاد للرياض، ثم تكلم بعده عن حياته في الرياض وعن الملك عبدالعزيز - لم أكمل قراءة الجزئية هذه حتى الآن -
حينما تقرأ الكتاب ووصفه للحج، تشعر كأنه يتكلم عن شيء جديد أو كأنه يخاطب إنسان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه!
يتكلم عن مِنى وعن شعائر الحج كأنها جديدة علينا، وهي تجربة جميلة أن ترى الأشياء من رؤية أخرى، ولكني شعرت بأنها ألفاظ خالية من روح المعنى!
تذكرت وأنا أقرأ له، ذكريات الشيخ علي الطنطاوي حينما ذهب لمكة لأول مرة، فرق بيّن بينهما، بروح الكاتب وحماسته وسمو ألفاظه!
كما  أن فليبي كان صديقًا للملك عبدالعزيز مما أضاف لكتابته رسمية السياسة عكس الشيخ الذي كان يكتب ببساطة العامة وروح الأديب!
وعودة للكتاب فإن فليبي كان يصف رحلة الحج والأماكن التي مر بها بدقة، كمنى وجبل أحد وغار حراء، والمدن التي مر بها .. وهذا أجمل ما في الكتاب وأفضله؛ كما يصف الأحداث، واستقبال الملك للوفود في الحج، ويومياته بالتفصيل الغير ممل!
قال في فصل: ملكة الصحراء - الرياض:
" مهما بلغت معرفة المرء بالمحيط الطبيعي لعاصمة الصحراء الرياض، فإنه لا يستطيع الاقتراب منها مرة ثانية بعد غيبة لفترة من الزمن إلا بشهقة من الدهشة! إنها تظل كامنة لا تراها العين حتى يدنو منها المرء مسورة ومدفونة في تيه تعصف فيه الريح متموجة لا شكل ولا خصائص .. الخ "
العجيب أن زمن فليبي في عهد الملك عبدالعزيز قريب جدًا، لكن ما يصفه كأنه كان من قرون! من يصدق بأن هذه الصحراء القاحلة، المدينة التي لا تكاد ترى قد تحولت لهذه البلدان العامرة؟!
.. سبحانك  - عظمت قدرتك - إن هذا لشيء عجيب!
الذي ميّز الكتاب عن بقية كتب الرحلات، هو الصور الملتقطة والمثبتة به :)



-

المعذرة على كثرة كلامي، أو عدم افاضتي فيه :)

" سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك "

الأحد، 9 أكتوبر 2011

شيخ العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

لو تنظر إلى الخارطة وتركز على الجزء الأوسط منها، ثم تقترب أكثر إلى الجزء العربي فيها، سترى عالماً ومساحات كبيرة تضم الناس من جميع الأشكال والأجناس؛ لكل واحدٍ منهم حكاية يعرفها محيطه الصغير ويجهلها محيطه الأكبر!
و في الجزء الشرقي من دولة عربية، في احدى قرى الريف في دولة مصر؛ عاد أحمد إلى منزله من مدرسته وفي يده صحيفة يومية هي وسيلتهم الوحيدة لمعرفة أخبار الناس من حولهم .. 
فلما دخل إلى منزله، وبدأ يقرأ على أبيه - كعادته -، إذ توقف فجأة لمّا رأي انقباض والده:

- أعد عليّ الخبر يا بني ..
- في نعي الأديب محمود شاكر؟
- أحقًا مات ؟
- كتبوا ذلك .. أتعرفه يا أبي؟!
- نعم يا بني أعرفه، أعرفه رغم ما تراه من جهلي واكتفاءي بعلمي المدرسي الذي أُنسيته! .. مهما ظننت - يا بني - من جهلي، إلا أن لي عينًا ثاقبة وبصيرة حادة ومعرفة بعواقب الأمور قلّما أخطيء بهن!
أعرفه وقد كان طالبًا وكنت له صديقًا، وكان أغلب يومه هادئًا، مطرقاً رأسه مفكرًا، كأن بين جنبيه همًا عظيمًا أخفض رأسه وملأ قلبه حزنًا، فهو يفكر به لا يلوي عنه..
شديد الكتمان على نفسه، عظيم الهمّة في طلب العلم، صبورًا عليه، شديد المحبّة للكتب، يكاد أن يكتفي بها مطعمًا ومشربًا ومؤنسًا لولا أن الحياة تجبره على فعلهن..  كثير الصمت وإن كانت عيناه تنطق بما لا يفصح عنه اللسان!
وكانت نشأته في مجتمع مضطربٍ يفور بالمتناقضات قد أثرت عليه كبير الأثر، فأصبح كثير الصراع مع نفسه، حيّر بها، فتعلم من ذلك بنفس غضّة مجرحة بالتجارب.
وكان فراق ما بيني وبينه، حينما كنا مرة في قاعة مدرسية، وأستاذ الأدب العربي واقفًا يتكلم علينا عن الشعر الجاهلي، متحمسًا في ذلك مخلصًا فيه فكأنما الكلمات تخرج من قلبه لا من لسانه، وتتلقاها القلوب لا الآذان..
وهو على هذه الحالة إذ قاطعه ابن شاكر يناقشه ويرد عليه في كلامه، والأستاذ يعلم نبوغه وذكاءه، وهو الذي تسبب له فأدخله كلية الآداب التي رغبها؛ وأحسّ بأنه يعلم سريرته وما تنطوي عليه نفسه، فلم يناقشه فيما خطّأه به أو حاول اقناعه، بل طلب منه الصمت وشدّ عليه! .. وهذه حيلة العاجز ولكنها ليست طريقة أستاذ بلغت شهرته الآفاق!
فضاق صدر أبوفهر بذلك ذرعًا، وكانت تشتعل في نفسه حمية الغيرة للغته التي أحبها وأخلص لها حتى أنهك فيها نفسه.. وخرج من قاعة الدرس إلى خارج أسوار الجامعة بل إلى خارج حدود الدولة!!
والنفس وإن صبرت أيامًا فلا بد ناطقة يومًا، وإن كتمت في نفسها وطال كتمانها فلا بد مخرجته.
وقد أمسكت به - وهو في طريقه خارجًا - فسألته:
- ما الذي دهاك؟
- " جعلت طريقي أن أهتك الستار المُسدلة التي عمل من ورائها رجال فيما خلا من الزمان، ورجال آخرون قد ورثوهم في زماننا"!
وأكمل طريقه.
فوقفت مشدوهًا من جوابه وظللت حائرًا أقلب كلامه يمنة ويسرة علي أفهم منه شيئًا فصعب علي! .. والنفس حين تتجلى عبر جملة قصيرة فإن الفهم أقصر من أن يحتويها.
ثم انقطعت عني بعد ذلك أخباره إلى أن جاءني من يخبرني بأنه أغلق على نفسه يدرس تلك القضية وأنه كتب بها كتابًا ثم كان - بعدُ - ما كان مما دار بينه وبين الأستاذ طه في الصحف.

- وما كان؟
- قصة طويلة يا بني.. أقلت لك بأنه اعتزل أعوامًا طويلة؟ 
- نعم، ولم توضح لي يا أبي..
- كان قد قضى في عزلته تلك عشرة سنين، وهي قصيرة في ذهن السامع، طويلة جدًا في ذهن العارف! .. عشرة سنين بحثًا عن طريق يهتدي إليه بعد ضلال الحيرة؛ وبحثًا عن أرض المعرفة التي تشرق عليها شمس الحق فتزيل ظلام الشك، وظلمات الحيرة والجهل! .. مدة طويلة يا بني، تضطرب بها النفس لا تهدأ أبدًا!
ومن كان على مثل حاله تلك، خشي عليه الجنون، أما هو فقد خاف على نفسه الهلاك!
 وكانت الساحة الأدبية يومئذ كالبحر يموج فيها جميع الآراء، غثها وسمينها؛ وتختلط فيه المناهج، فلا يُعرف صحيحها وخاطئها..
فما كان منه - وما من أحد أشد توقًا منه للاستقرار- إلا بأن ينسف جميع ما تعلمه وراء ظهره، وبدأ بالبحث عن منهج تطمئن إليه نفسه، ويرضى به عقله!
وكان وحيدًا في مسيره، منفردًا بطريقه، يقرأ كل ما تقع عليه عيناه من الأدب العربي؛ يعرضها على عقله، ويختبرها بقلبه، وتلتفت إليه نفسه كلها، فكأنما يشربها شربًا فإذا مشت في عروقه وتوزعت في نفسه، وارتوى منها، كُشف له عن خبايا ما كان يقرأه، وعرف خبيئة الشاعر بقصيدته، وإن أخفاها بفنه وبراعته.. و" لا تقل لنفسك هذا مجاز لفظي، كلا، بل هو أشبه بحقيقة أيقنت بها "
- ما أشق طريقه يا أبتاه!
-  .. كان يقول: " سخرت كل سليقة فُطرت عليها، وكل سجية لانت لي بالإدراك، لكي أنفذ إلى حقيقة البيان الذي كرم الله به آدم عليه السلام وأبناءه من بعده"!
- وتوصل لذلك؟
- نعم يا بني، ما أظنه إلا وصل إليه وعرفه واطمأنت به نفسه.. فقد ألف بذلك كتاب المتنبي - الذي عُرف به واشتهر-، وتميز بمنهجه " التذوق " ..
- التذوق؟!
- نعم، كان يقول بأن كل كلام يصدر من إنسان إنما يريد به الإبانة عما في نفسه، وما يموج به عقله..
 - وبعدُ يا أبي؟
- كان قد اشتهر كتابه بمنهجه الفريد المميز، وتوجهت إليه أنظار الأدباء وكتب عنه الرافعي ..
ولكني لا أحدثك يا بني عن كتابه، إنما عن أستاذنا طه، وكان قد طبع الأستاذ كتابه " مع المتنبي " بعد سنتين من كتاب محمود شاكر، ينقد فيه كتاب المتنبي، ولم يمنعه ذلك من السطو على أجزاءٍ من الكتاب، فاتهمه محمود بذلك وكتب ردًا عليه مقالات نشرها في احدى الصحف، ودارت بينهما معركة أدبية وسجال فكري! 
- مثبتة في الكتب فنعود إليها؟
- لا أعلم يا بني، لم يكن أبوفهر يحب أن يعيد كلامًا له سبق وأن قاله في مجلة أو كتاب؛ وكان شديدًا في المسألة تلك ..
وكان له تلميذ حريصٌ على فعل ذلك، لولا أن ابن شاكر رده عن طلبه أكثر من مرة! 
وأذكر أنهم قالوا له بعد معركته الأدبية الأخرى مع لويس عوض، بأن الأخير ربما يجمع مقالاته ويعرضها على الجيل من بعدنا، وهم يجهلون مقالات ابن شاكر التي رد عليه فيها؛ فيظنون بأنه قد كتب الحق ويؤمنون بكلامه! 
- واقتنع يا أبي؟
- أظنه فعل، فإني عرفته حريصًا على ما ينفع أمته ..

ثم أمسك الأب عن الحديث وزفر زفرة طويلة، ثم قال:
- يا بني، ما كانت حياته حياة رجل فقط، وإن لفي سيرته تاريخ يُروى، وصبر متجسّد، وتمثل همّة، وأدبًا يقرأ وعلما يُطلب!
.. ما وجدت أصبر منه على توعية أمته، وما يتلقاه منهم من جهل به ووضع لقدره لمن لا يعرفه!
ولا علمت من هو أشد تضحية بنفسه وجهده ووقته لتوعية الناس بالخطر الخفي؛ وكمن أمور نجهلها ظاهرها الخير الذي يُطمئن إليه، ومن باطنها الشر المستفحل والداء القاتل!
ولقد قال مرة: " كنت وضعتُ اسمي في صندوق مغلق لا يعرف ما فيه إلا قدماء القراء، أما الأجيال الحديثة فهي تمر عليه بلا مبالاة ثم لا تجد ما يحفزها على الكشف عما يحتويه هذا الصندوق"!
فلئن صدق، فقد غفل الجيل عن أديب هو من كبارهم، ولئن جهلوا كتبه فقد أضاعوا تاريخهم الذي عاشه آباءهم من قريبٍ؛ ولئن صدق، فقد فرطوا في كنز ثمين وعلم وحكمة ومعرفة عظيمة.
ثم استعبر الأب وقال:
سلام على النعش الخفيف فقد ثوت  .. ثقال المعالي عنده وأواصره!
ا.هـ